عظة الأب شربل نادر – ١٥ حزيران ٢٠٢٥

الله معكم إخوتي.

كما قلتُ في بداية هذا القداس، نحتفل اليوم بأحد الثالوث الأقدس، الذي يُعدّ جوهر إيماننا المسيحي. نحن نؤمن بإلهٍ هو في آنٍ واحد: الآب، والابن، والروح القدس. كم أذكر، أيام المدرسة، كنا نسأل: لماذا إلهنا ليس إلهاً واحداً بسيطاً؟ لماذا يبدو وكأنّه مقسَّم؟ لماذا ثلاثة أشخاص؟ وهذا ما يخلق لنا إشكالاً في الحوار مع الديانات الأخرى، إذ يعتقدون أننا نُقسِّم إلهنا.

لكن الحقيقة هي أنّ الله واحد في الجوهر، في الكيان، لكنه ثلاثة أقانيم أو ثلاثة “أشخاص”، ثلاثة كيانات متمايزة، الآب ليس هو الابن، والابن ليس هو الروح القدس، ولكنهم في جوهرهم واحد.

قد يبدو هذا الكلام نظرياً أو فلسفياً، لكن حتى نفهمه علينا أن ننطلق من حقيقة نعرفها جميعاً ونرددها دائمًا، ولكن نادراً ما نتعمق فيها: “الله محبة”.

حين نقول “الله محبة”، لا نعني فقط أن من صفات الله أنه محب، أو أن لديه رحمة، بل نعني أنّ الله هو بذاته المحبة. فالمحبة لا تُضاف على الله، بل هي كيانه. إذا كانت هناك محبة في العالم، فهذه هي الله. لا وجود للمحبة الحقيقية من دون الله.

لكن ما هي المحبة؟ هل المحبة يمكن أن تكون في شخص واحد فقط؟ لا. لأن المحبة هي علاقة. المحبة هي عطاء الذات من شخص إلى آخر. إذا اقتصرت على الذات، تصبح أنانية، وتفقد جوهرها.

ولهذا، حين نقول إن “الله محبة”، فهذا يفترض وجود “أكثر من شخص” داخل الله، لأن المحبة لا تُمارس إلا بالعلاقة. فالله الآب يُحب الابن، والابن يُبادل الآب هذه المحبة، وهذه المحبة المتبادلة يحملها الروح القدس،  هي علامة الروح القدس.

هكذا نفهم لماذا الله محبة، ولماذا هو ثالوث: لأنّ المحبة في ذاتها هي حركة وعلاقة، وليست كياناً مغلقاً.

بدأتُ بهذه المقدمة الصغيرة عن الثالوث الأقدس، كي أنتقل إلى سؤال طرحه الشباب في بداية القداس: هل يعني أن أكون مسيحياً أن أتخلى عن حياتي؟ عن مشاريعي؟ عن فرحي؟

كم من مرة نُخدَع ونفكر أن الإيمان يعني التخلّي، وأن الله يريد أن يأخذ منا الحياة، كأن الإيمان طريق نحو البؤس. وهذه الفكرة، إخوتي، خاطئة وخطيرة، وأحياناً تكون من إبليس ذاته.

الله لا يريد أن نرمي مشاريعنا، أو نعيش حياة منغلقة، أو نغرق في الحزن والانفصال عن الحياة. لا.

نحن اليوم نحتفل بالثالوث الأقدس لأن حياتنا كلها صورة عن الله. أُنشئنا على صورته ومثاله، والله يريد أن تكون علاقتنا به كالعلاقة بين الآب والابن والروح القدس، علاقة حبّ، عطاء، فرح، حرية.

ما نوع هذه المحبة؟ نكتشفها في أول قراءة من سفر الحكمة: “وكنت عنده مهندسةً، وكنت في نعيمٍ يوماً فيوماً، أَلعب أمامه في كل حين، أَلعب في مسكونة أرضه، ونعيمي مع بني البشر”.

الحكمة (رمز المسيح) تصف وجودها أمام الله كفرح ولعب. الله لم يقل له: “توقف عن اللعب”، أو “كن جديًّا مثلي”. لا! الله فرِحٌ معنا، محبٌ لحياتنا، لا يريد أن يلغينا أو يُحزِننا.

الله لا يأتي ليقول لي: “اترك مهنتك”، أو “ارمِ طموحاتك”، أو “توقف عن النجاح”. لا.

الله يريد فقط أن يسكن حياتنا كما هي. في عملنا، في علاقاتنا، في دراستنا، في محبتنا، في صرفنا للمال، في نظرتنا للناس، وحتى في طموحاتنا.

حين نسير من دون الله، تصبح علاقاتنا مشوَّهة، تعاملنا مع المال مشوّه، مع السلطة، مع الناس… حتى الحبّ يتحوّل إلى تملّك. أما حين يسكن الله في حياتنا، فتصبح نظرتنا للحياة مختلفة، ونصير أبناء لله بحق، ونعيش الملكوت منذ الآن.

الله لا يريد أن يُلغينا، بل أن يُقيم معنا، أن يسكن في أعماقنا، ليُغيّر كل شيء من الداخل: نظرتنا، حبّنا، علاقاتنا، طريقتنا في العمل، في البيت، مع أهلنا، أولادنا، شركائنا.

اليوم نغفل كثيرًا عن دور الروح القدس. نتحدث عن الآب، عن الابن، وننسى أن الروح القدس يسكن فينا. كل واحد منّا، منذ عماده، صار هيكلاً للروح القدس. هذا الروح يريد أن يكلّمنا، أن يُذكّرنا بمحبة الآب لنا.

هل نسمح له أن يكلّمنا؟

فلنطلب اليوم في هذا القداس، نعمة الإصغاء إلى صوت الله، إلى روحه في داخلنا.

الله لا يأتي ليأخذ منا شيئاً. بل ليمنحنا حضوره. كي تتحوّل حياتنا، شيئًا فشيئًا، إلى صورة قلبه، إلى قلب يعرف أن يُحب، ويَرحم، بلا أنانية.

فلنأخذ دقيقة تأمل، نطلب فيها هذه النعمة.