الله معكم إخوتي.
نحن اليوم في الأحد الخامس من زمن الفصح، والكنيسة تقدم لنا هذا الإنجيل القصير، لكنه مليء بالمعاني.
يخبرنا الإنجيل: بعد أن خرج يهوذا من العلّيّة ليخون يسوع المسيح، يعطي يسوع في قلب تلك اللحظة المملوءة خيانة، والمشبعة بالظلمة—اللحظة التي فيها ابن الله، ابن الإنسان، يسوع المسيح، الذي جاء ليحب ويبشّر ويشفي ويغفر خطايا الكثيرين—يُسلَّم للموت بطريقة غير عادلة، ويتألم.
ولم يكن فقط موتًا، بل عذابًا… يُخان، يُهان، يُبصق عليه، ثم يموت أبشع ميتة: ميتة الصليب.
في قلب هذا الظرف الأسود، يعطي يسوع أهم وصية في الكنيسة، أهم وصية لنا جميعًا.
أهم وصية قالها الرب يسوع.
وتعرفون أن الإنسان، عندما يصل إلى آخر لحظاته، لا يعود لديه وقت للكثير من التفاصيل، بل يذهب إلى الجوهري والأساسي:
«أحبوا بعضكم بعضًا، كما أنا أحببتكم.»
والناس سيعرفون أنكم تلاميذي، أنكم تشبهونني، أنكم اخترتمروني في حياتكم، عندما ينظرون إليكم ويرون كيف تتصرفون.
عندها، سيعرفون أنكم أبناء الله، وإخوة يسوع المسيح.
ما أهم هذه الوصية! أن نحب بعضنا بعضًا.
لأنها الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها أن نُبشّر، والتي من خلالها نُظهر هويتنا الحقيقية.
عندما يرونا نحب بعضنا، مباشرة سيعرفون أننا أولاد الله. حتى الله سيعرفنا من خلال طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض.
كما تتذكرون في إنجيل متى، الفصل 25، في النهاية يقول الرب:
«تعالوا يا مباركي أبي، لأني كنت عطشانًا، وزُرتموني، وأطعمتموني، وسقيتموني، وكسوتموني…»
ويقول للآخرين:
«اذهبوا عني يا ملاعين، فإني لا أعرفكم.»
لا يعرفهم… لأنهم لم يتصرفوا انطلاقًا من هذا الحب.
الله يعرفنا أننا أولاده عندما يرانا نتصرف كما أوصانا، أن نحب بعضنا بعضًا، حتى في أقسى الظروف.
المسيحي هو الذي يحب حين لا يكون هناك سبب يدعو للحب.
هذا هو الفرق بين المسيحي وغير المسيحي.
المسيحي يحب في وقت يجب فيه، حسب منطق العالم، أن يكره.
المسيحي يحب في وقت يُتوقع فيه أن ينتقم، بحسب منطق العالم.
المسيحي يعانق، بينما بمنطق العالم، عليه أن يرد الضربة بضربة. بعد أن تلقّى ضربة… هو يغفر.
هذا هو الفرق الحقيقي الذي نحن كمسيحيين مدعوون إلى أن نعيشه.
وأعلم أن هذا صعب، لأنه عكس غريزتنا، عكس ضعفنا البشري، المتغلغل فينا، والذي كثيرًا ما يجعلنا نتصرف حسب ردات فعلنا، حسب غرائزنا، التي لا تشبه حقيقة دعوة الله لنا أن نكون أبناءه.
لذلك، كما يقول سفر الرؤيا:
«ها أنا ذا أجعل كل شيء جديدًا.»
ماذا يعني؟
هل يعني أن الله يريد أن يُلغي كل شيء ويخلق خليقة جديدة من الصفر؟
لا.
ليس هذا ما ينبغي أن ننتظره من الله.
وكم من المرات نقع في هذا المنطق، فنخسر كثيرًا…
لأن الله لا يريد أن يُلغي ضعفنا،
لأنه لو أراد أن يُلغي ضعفنا، لكان عليه أن يُلغي وجودنا،
لأننا نحن بطبيعتنا ضعفاء،
وهذه حقيقة متجذّرة في كياننا.
الإنسان خُلِق ضعيفًا.
خُلق بالخطية.
خُلق يمرض، يخاف، يبرد، يَغضب، يَنفعل بعنف، ينهار.
الإنسان ضعيف.
إذاً، لا يمكننا أن نطلب أن نُخلَق من جديد بطريقة تُلغى فيها الخطية والضعف والشر.
إلغاء الشر هو إلغاء للإنسان.
ليس لأن الإنسان شرير،
بل لأن الشر يأتي من الإنسان عندما ينفصل عن محبة الله.
الشر يأتي من الإنسان الذي، في لحظات معينة، يفقد إيمانه بالله،
ويتصرف بحسب منطق العالم.
كلّنا، في لحظات معينة، نُشبه الأشرار.
كلّنا، في لحظات معيّنة، ننسى هويتنا كأبناء لله.
نحن نحمل الإثنين داخلنا.
ولذلك، لا يجب أن نيأس.
لا يجب أن نخاف.
لأن الله آتٍ ليحوّل اللحظات التي نكون فيها بعيدين عنه…
اللحظات التي نختار فيها “الأنا”،
التي نختار فيها أنانيتنا،
التي نختار فيها أن نحلّ الأمور بقوتنا الشخصية،
أن نستبعد الله عن المشهد…
في هذه اللحظات، نحن لا نشبه الله.
لكن الله يعرف هذه الحقيقة.
يعرف حقيقة ضعفنا.
وهو آتٍ لا لكي يُلغي الشرير،
بل لكي يمشي معه،
يمشي مع الخاطئ الذي يحمل في داخله إنسانًا…
لأنه لا يوجد أحد شرير بالكامل، إخوتي.
أنا من خبرتي في السجون—التي غيّرت حياتي—عندما التقيت بمُدانين بالإعدام على جرائم قتل،
كنت أظن أنني سألتقي بوحوش…
لكن تفاجأت أنني التقيت بأناس… مثلنا.
عندهم مشاعر، عندهم أحاسيس… ليسوا وحوشًا كما نتخيل.
لكنهم في لحظة معينة، فقدوا كل سلام قلبهم،
فارتكبوا خطايا، وجرائم.
ونحن أيضًا، نقتل…
نقتل بكلماتنا، عندما نقول كلمة قاسية قد تُؤلم الآخر طوال حياته.
هذا أيضًا نوع من القتل.
الخطيئة، إخوتي، هي لحظة لا أتوكل فيها على الله.
بل أتكل على نفسي.
أقول: “سآخذ حقي بيدي.”
ولا أستسلم لهويتي الحقيقية، التي تقول إنني، بالخير، بالمحبة، أنتصر على أعظم شرّ في العالم.
وهذا ما فعله يسوع المسيح.
قبل أن يُضرَب…
لكنه حوّل كل لحظة سوداء، مثل لحظة خيانة يهوذا،
التي كانت بداية المؤامرة لقتله،
إلى لحظة حب،
فقال فيها: «أحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم.»
لا تفكروا بمنطق آخر.
لا تفكروا بالانتقام من يهوذا.
لا تحكموا عليه…
لأنه لا أحد يعلم ماذا كان يَعيش في داخله،
إلا الله وحده.
إخوتي، هذا الإنجيل هو دعوة لنا…
دعوة ألا نخاف من ضعفنا،
دعوة من الله…
أنه إن كنّا في تاريخ حياتنا الإيمانية قد أخطأنا كثيرًا،
إن شعرنا في لحظات أننا غير أهل لأن نُدعى مسيحيين،
أو أبناء الله…
أو حتى أن نَدخُل الكنيسة…
أُرجوكم، لا تدعوا هذه الفكرة تسيطر عليكم.
لا أحد غير مستحق.
حتى أكبر قاتل،
حتى من ارتكب أعظم خطية يمكن أن تتخيلوها،
كلّنا أبناء الله،
وكلّنا لنا فرصة أن نعود ونقف من جديد.
بفضل رحمة الله،
التي يسكبها في قلوبنا دائمًا،
كل ساعة، وكل دقيقة،
حتى وإن تكرّرت خطايانا،
فهو يقول لنا:
“قُم، أنت تستحق أن تُعطى.”
وليس مرة واحدة، ولا مرتين، ولا ثلاثًا…
بل فرص لا متناهية.
لأنك عزيز على قلبه.
لأنك ابنه.
لأنه يريد خلاصك، لا موتك.
وهكذا، إخوتي، في قلب هذه المحبة الكبيرة،
حتى في أظلم أوقات حياتنا،
هذه المحبة،
وهذه الثقة التي يضعها الله فينا،
أننا قادرون أن نُشبهه، شيئًا فشيئًا، في مسيرة حياتنا،
هي التي تعطينا القوّة لننهض من جديد،
ونتحدى منطق العالم،
ونتحدى ضعفنا البشري،
لأن نعمته وحدها تكفينا.
نعم، نعمته وحدها كفيلة أن تُحوّل كل ضعف فينا إلى فرصة للخير،
فرصة للمحبة،
فرصة للرحمة.
لذلك إخوتي،
فلنأخذ لحظة، نتأمل فيها بهذه الكلمة.