من ١٧٥ سنة ظهرت العذراء بشارع Rue du Bac في باريس لراهبة المحبة “كاترين لابوريه” وبعدها بـ ٢٨ سنة جاءت ظهورات “لورد لبرناديت” تكمل الرسالة وكأنهما فصلين لظهور واحد. بدأت العذراء ظهوراتها في لورد كما أنهتهم بباريس فاتحة ايديها مشعّة بالأنوار. لتبشّر العالم بحبّ الله الأبّ وتساعد كل إنسان ليتقبَّل هذه النِعَم وينفتح على هذا الحبّ… لأنّ نِعم السماء ليست سوى حبّ الله لنا، حبٌ بلا شروط يجعل منّا مجاناً أبناءً للآب السماوي.
النقطة الأولى في رسالة العذراء هي أمومتها واهتمامها بشؤوننا كالأمّ.
كانت بداية الظهور الأول في باريس كما أول سبعة ظهورات في لورد: إبتسامة، حنان، دعوة، لقاء، حوار وأسرار… أي لقاء حميم مع أمّ سماوية. وبعدها انتقلت العذراء في الظهورين إلى التعبيرعن حزن قلبها على العالم الضائع في الشرّ. “العالم كله سيغرق بالحزن… سيفتحون قلب ابني من جديد… وكادت العذراء أن تبكي ولم تستطع المتابعة….” ولبرناديت طلبت بحزن: “التوبة التوبة التوبة، صلّوا لأجل الخطأة…”
افتكر إنسان اليوم الذي يبحث عن السعادة أنه سيجدها في التقدم والتكنولوجيا والطبّ .. والمال والغنى… وضيّع الطريق.
العذراء نفسها هي الرسالة، هي الجواب لمشكلتنا، لأنها المرأة، حواء الجديدة، التي تحقق فيها مشروع الله الأساسي والأول للإنسان، كما كان في قلب الله لما خلق البشرية: مشروع كمال في المحبّة… إن الخطيّة وقلّة الحبّ هما سبب ألم الإنسان الحقيقي … وكلّما تقدّس الإنسان بالحبّ وكلّما صار ” كاملاً بلا عيب ولا دنس بالمحبة” (كقول بولس الرسول) كلّما اقترب أكثر فأكثر من تحقيق مشروع وجوده في هذا الكون وكلّما وجد السعادة.
“الطهارة بلا دنس” التي تكوّنت فيها العذراء والتي حافظت عليها حتى موتها المقدّس هي علامة وبشارة لإنسان اليوم. هي الأمل لنا جميعاً نحن الذين خلقنا بالخطية وكتيراً ما نعيشها ونغرق فيها بأننا قادرون بمشوار توبتنا برفقة مريم للوصل يوماً إلى هذا النقاء وإلى أن نموت بدون خطيئة لا عيب فينا بالمحبة..
ما هو الحل لإنسان اليوم الذي غرق بالبحث عن السعادة عبر المال والتكنولوجيا والتقدم ولم يصل الى السعادة. ما ردّ العذراء البريئة من الخطيئة لأبناءها اليوم؟ ما هو الدواء الذي تقترحه علينا لنحيا؟
الطريق واحدة… يسوع إبنها هو الجواب لقلب الإنسان العطشان الى الحبّ.
في باريس قالت لكاترين : تعالي إلى أقدام هذا المذبح هنا النِعَم ستكون غزيرة….
يسوع هو المذبح والذبيح، الكاهن والقربان، هو الذي أحبنا حتى جاد بنفسه لخلاصنا… حبّه لنا الذي تجلى على مذبح الصليب هو أسمى درجة في الحبّ، هو الحب الحقيقي الذي يروي عطش قلوبنا ويداويها.
و في لورد قالت لبرناديت : إذهبي إلى النبع إشربي واغتسلي…
إذهبي إلى مَن هو النبع الذي يتدفق مياه الحياة الأبديّة … إلى الذي قال: “مَن يؤمن بي لن يعطش أبداً” … مَن قال للأعمى: “إذهب فاغتسل”… فذهب واغتسل وعاد يبصر…
يا أمّنا …. إنتشر الشرّ حولنا اليوم… حضنك الدافي هو الطريق لرجوعنا إلى ابنك، مخلصنا الوحيد وحنانك قبس من حنانه… ضمّينا اليه اغمرينا بحنانه فيهدأ روع قلبنا.
لهذا فان ظهورات لورد لبرناديت سوبيرو (Ste. Bernadette Soubirous) وظهورات الأيقونة العجائبيّة لكاترين لابوريه ( Ste. Catherine Labouré ) ليسا سوى فصلين من ظهور واحد. الرسالة واحدة: مريم البريئة من كلّ خطيئة. مريم التي كُوِّنت بلا دنس، مريم المقدّسة، المملوءة نعمة، الفائق قدسها: مريم طريق الإنسان نحو السعادة مريم رفيقتنا الى الله.
ظهورات باريس هيّأت اعلان عقيدة “الحبل بلا دنس” أو التكوين البريء من الخطيئة، وظهورات لورد أكّدتها.
طلبت العذراء في كلا الظهورين الأمور نفسها: التطوافات الى المعبد، صلاة المسبحة، التوبة، الصلاة لأجل الخطأة،… جميعها علامات حسّية للإيمان في عالم يغرق في الإلحاد العملي (العيش كما لو أنّ الله غير موجود) وجيل ينزلق في هوّة الأنانيّة والكسب.
عندما لم تحصُل كاترين من رؤسائها على تحقيق ما طلبته العذراء في باريس (فتح أبواب كنيسة الدير أمام المؤمنين وتنظيم تطوافات نحوها) توجهت كاترين للعذراء بهذه الكلمات التي دونتها على ورقة صغيرة وُجدت في كتاب صلاتها بعد موتها: يا امي، اظهري ذاتكِ في مكان آخر « Ma bonne mère, manifestez-vous ailleurs » استجابت مريم لإقتراح كاترين ولم تتأخر فكانت ظهورات لورد. ويوم تنظيم أول تطواف كبير في لورد كانت كاترين تطير من الفرح وتروي لإخواتها في الدير وقائع ما يحدث في لورد وكأنها موجودة هناك. ولدى سماعها بعجائب الشفاءات في لورد كانت تقول بحسرة لهنّ: تصوّرنَ أنّ هذه الأمور كان يجب أن تكون عندنا.
كانت تردّد دائما كلّما تكلّم أحد عن لورد: “هي نفسها هي عذراؤنا هي الطاهرة” C’est notre Vierge. C’est la même. C’est l’Immaculée .
كاترين، قديسة الصمت، أمضت باقي حياتها بخدمة الفقراء والمرضى ورغم انتشار الأيقونة وشهرتها والعجائب الكثيرة التي تمّت بواسطتها …. بقيت كاترين مخفيّة كاتمة السرّ. لم يقدر أحد أن يعرف من هي هذه الراهبة المحظوظة التي رأت العذراء بعيون الجسد. لماذا هذا التكتّم؟ لأنها عرفت إنّ السعادة الحقيقية هي في الحبّ وليس في الشهرة والأضواء والحب المزيف. لم تكن كاترين قديسة لأنها رأت العذراء بعيون الجسد ولكن لأن لقاءها بالعذراء هذا كان بداية مشوار للإتحاد بيسوع بالمحبة وعبر الخدمة.
عاشت برناديت أيضاً نفس الخبرة. هربت من الناس الذين كانوا يتدفقون إلى لورد ليشاهدوها.. وقررت أن تكون راهبة محبة في رهبنة “راهبات Nevers ” وأمضت باقي حياتها في الخفاء، وخدمة المرضى والجهاد اليومي للإتحاد بيسوع.
القداسة هي أن نتحد بألله كمثل اتحاد العذراء به. وعلامة هذه القداسة وهذا الاتحاد، كما تقول برناديت، أن يكون الإنسان، على مثال مريم الواقفة تحت الصليب، واقفاً برجاء أمام صليبه… وفي إحدى صلواتها المكتوبة تطلب برناديت من العذراء: “يا إمّي خذي قلبي وازرعيه في قلب يسوعي “.
لهذا نقول: ما هي العجيبة الكبيرى ؟ مريض بالسرطان يشفى …. وبعد ذلك!!! لا.لا… العجيبة الكبيرى أن يوجد على الأرض مريض بالسرطان قديس. مريض بالسرطان يعرف بأنه مريض ويعيش هذه المحنة بفرح وسلام ورجاء وسعادة…. هذه هي الآية التي تعجز البشر ولكنها لا تعجز الله.
العجيبة الحقيقية هي أن يتخطّى الإنسان الموت ويحبّ … حتى أعداءَه … وأحياناً أعداء الإنسان يكونون أفراد عائلته …
واسترجاع الإيمان أكبر بكتير من استرجاع البصر…