لو لم يكن إلهنا ثالوث – الأب رمزي جريج – ١٥ حزيران ٢٠٢٥

إخوتي،

قد يكون بينكم من كان ينتظر حضور مطران لورد اليوم، ولكن كما تعلمون، الظروف الطارئة التي استجدّت اضطرته منذ يومين إلى مغادرة لبنان لأسباب أمنية.

من المهم جدًا، إخوتي، في خضمّ الظروف التي نعيشها اليوم، أن نتأمل في سر عيد الثالوث الأقدس، لا كفكرة لاهوتية نظرية، بل من خلال انعكاسه المباشر على حياتنا كبشر.

في رواية الخلق، عندما خلق الله كل شيء، كان يخاطب البيئة التي سيعيش فيها المخلوق: عندما خلق الطيور، خاطب الجو، وعندما خلق الأسماك، خاطب البحر. أما عندما خلق الإنسان، فمع من تكلّم؟ تكلّم مع ذاته، وقال بصيغة الجمع: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا.”

السمك يعيش في الماء، والطير في الهواء، والحيوانات في الغابة. ولكن الإنسان، أين يعيش؟
يعيش في الله، في قلب الله، لأن الله جمعٌ وليس مفردًا.
إلهنا إلهٌ واحد، نعم، ولكنّه ثلاثة أقانيم، ثلاثة أشخاص: الآب والابن والروح القدس.

رأينا في قراءة العهد القديم اليوم، أنّ بداية الخلاص بدأت مع إبراهيم. وأهمّ لقاء بين الله وإبراهيم كان تحت بلوطة ممرا، حين ظهر له الله في صورة ثلاثة رجال وأعطوه وعد الحياة، وعد النسل.
وفي تلك اللحظة، لمس إبراهيم حضور الله في حياته، فسجد إلى الأرض.

أما قمة الخلاص، التي تمّمها الله في ابنه يسوع المسيح، فكانت في قوله:
اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.”

نعم، عمّدوهم، اغمسوهم، أغرقوهم في اسم الآب والابن والروح القدس، لأن قمة الخلاص هي أن يعود الإنسان إلى بيئته الأصلية، إلى قلب الله، حيث الحياة الحقيقية.

الإنسان لا يَجد خلاصًا، ولا يكتشف معنى وجوده، إلا إذا عاد إلى حضن الله، الإله الواحد في ثلاثة أقانيم.
ويخطئ من يظنّ أن الثالوث مجرّد تفصيل لاهوتي أو فكرة نظرية، فهذه حقيقة أساسية وجوهرية في فهم الإنسان لنفسه، لأن الإنسان مخلوق على صورة هذا الإله الثالوثي.

إلهنا الثالوث هو إله المحبة. المحبة الحقيقية، تلك التي تضحي بذاتها لأجل الآخر، المحبة التي تتخطى الأنانية.

الآب يفيض ذاته في الابن. ولو لم يعطِ الآب حياته للابن، لما وُجد الابن، ولما كان الآب أبًا في الأساس.
ولكي يكون الابن مساوٍ له في الجوهر، أعطاه كل شيء.

وهذا العطاء المطلق، هو الروح القدس.
الروح القدس هو أقنوم المحبة، العلاقة الحقيقية التي تجمع دون أن تذيب، وتُميز دون أن تُفرّق.
هو المحبة التي تجعل الإنسان يخرج من أنانيته وتقوقعه وكبريائه، لكي يُعطي ذاته للآخر، ويُدرك أنه لا يتحقق إلا عندما يُهدي ذاته في سبيل من يحب.

إخوتي، هذا هو انعكاس صورة الله علينا، وهو أمر مهم جدًا.
لأنه، لو كان الله أقنومًا واحدًا فقط، لكان غنيًا بنفسه ومكتفيًا بذاته، ولكان الإنسان، ليشبه الله، عليه أن يغتني، ويجمع المال، ويبحث عن الشهرة.

أما إلهنا الثالوث، فماذا يعلّمنا؟
يعلمنا أن الغنى الحقيقي ليس في الامتلاك، بل في العطاء.
أن يُعطي الإنسان، أن يُوزّع، أن يبذل ذاته.

لو كان إلهنا فردًا، لكان مكتفيًا، ولكانت الحاجة ضعفًا.
أما لأنه ثالوث، فالحاجة تصبح نعمة، لأنّها فرصة حب.

حتى الفقر يصبح نعمة، في ضوء الإيمان.
يقول آباء الكنيسة:
“الفقراء يتقدّسون بفقرهم وهم يطلبون، والأغنياء يتقدّسون بغناهم وهم يعطون.”
لِماذا؟ لأن إلهنا ثالوث.

أقول لكم أيضًا، ولا نخدع أنفسنا، وربما كلامي يحمل مجازفة:
وراء كل الحروب، هناك أفكار دينية.
ولكن ليس كل تدين يوصل إلى السماء.
هناك تدين يُوصل إلى الجهل، حتى لو حمل اسم “مسيحية”.
إن لم يُدخل الإنسان إلى إيمانه فكرة إله المحبة، فإن الدين يتحول إلى سلاح، ويُوصل إلى الحرب والدمار والقتل والكبرياء والحقد والموت.
ليس فقط موت الآخر، بل موت الذات أيضًا.

ما نراه اليوم من حولنا، هو إنذار لنا.
لنُدرك، مع أي إله نريد أن نكون؟
مع إله المحبة؟ فلنبدأ ببناء هذه المحبة من حولنا:

في بيوتنا، عائلاتنا، شوارعنا، أحزابنا، وطننا، ومجتمعاتنا الصغيرة.
ربما لا نقرر نحن الحروب الكبرى،
ولكن نحن نقرر الحروب الصغيرة.

نحن لا نُطلق الصواريخ والطائرات المسيّرة،
لكننا نطلق الكلمات الجارحة، الشتائم، النميمة، الظنون السيئة.
وهذه، ربما، تؤذينا أكثر من الحروب الكبيرة، لأنها تدمر حياتنا من الداخل.

فلنقف اليوم، أمام ما يجري، وأمام هذا العيد العظيم، عيد الثالوث الأقدس، ونأخذ قرارًا:
مع أي إله نريد أن نكون؟

أحبّ هذه العبارة التي قالها إبراهيم لله، الذي ظهر له في صورة ثلاثة رجال:
أرجوك، لا تعبر عني دون أن تتوقف.”

فلنأخذ دقيقة صمت، ونتأمل في هذه الكلمة، ولتكن صلاتنا اليوم:
يا رب، أرجوك، لا تعبر دون أن تتوقف عندي.
أنا أريدك. أنا بحاجة إليك في حياتي:
مع زوجتي، مع أولادي، مع جيراني، مع إخوتي، مع رهبانيتي، في ديري، في رعيتي، في عملي، في كل ظروف حياتي.

لا تمرّ من أمامي دون أن تتوقف.
لأني أريد أن أكون منك ولك. آمين.

فلنأخذ دقيقة صمت ونتأمل في هذه الكلمة، ثم نتابع قداسنا.