الأب رمزي جريج عن البابا فرنسيس من خلال فرانس ٢٤ العربية

البابا فرنسيس يُعدّ من أبرز الباباوات الذين اهتموا بالقضية اللبنانية وقضية الشرق بأسره. فإذا تأملت خطبه وكلماته، تجد أنه لم يكن يميز أحدًا دون آخر، بل كان يتحدث دائمًا عن جميع الضحايا في كل البلدان: ضحايا العنف، وضحايا الحرب والقتل. كان يذكر الأراضي المقدسة والعراق ولبنان وسوريا، فالشرق كان في قلبه، وهذه مسألة بالغة الأهمية، لأن البابا فرنسيس، برأيي، من الباباوات الذين صوبوا النظرة الإيمانية الحقيقية نحو الإنسان.

كثيرًا ما نظن أن الدين موجّه لله فقط، بينما الهدف الحقيقي للدين هو خدمة الإنسان. وهذا ما أعلنته الكنيسة الكاثوليكية وعملت عليه في المجمع الفاتيكاني الثاني.

غير أن الكنيسة حينما تصدر قرارات مصيرية بهذا الحجم، تشهد ما نسميه باللهجة اللبنانية “تكويعة”، أي انعطافًا كبيرًا في الذهنية والعقلية، وتحتاج وقتًا طويلاً للوصول إلى تحقيق أهدافها.

وأعتقد أن مع البابا فرنسيس، قد بلغنا شوطًا كبيرًا في هذا المسار.

فالمجمع الفاتيكاني الثاني، الذي ابتدأه البابا يوحنا الثالث والعشرون وختمه البابا بولس السادس، ومن ثم تبعه البابا يوحنا بولس الأول، الذي جمع اسمي يوحنا وبولس تكريمًا لمن بدأوا وأنهوا المجمع، عاش ثلاثين يومًا فقط. بعده، جاء البابا يوحنا بولس الثاني الذي أحدث انعطافة كبيرة في حياة الكنيسة وفي فكرها ولاهوتها.

ومن بعده، تولى البابا بنديكتوس السادس عشر الذي ثبت إرث يوحنا بولس الثاني داخل الكنيسة، لا سيما وأن شريحة واسعة من الكنيسة آنذاك كانت معارضة، ولم تتمكن من استيعاب هذا التحول.

لقد كان هذا التمهيد ضروريًا لما جاء به البابا فرنسيس الذي أكمل المسيرة، ودفع بها أكثر نحو الإنسان.

ولو تأملنا حال الشرق اليوم، لوجدنا أن الحروب والاقتتال والكراهية ما تزال قائمة بين أبنائه، تحت شعارات دينية، وهذا ما كان البابا فرنسيس يسعى لتجاوزه:

أن يتخطى الإنسان الدين ليبلغ الإيمان.

فالدين هدفه إرضاء الله، أما الإيمان فهدفه الوصول إلى الله عبر الإنسان.

في نهاية المطاف، هدف الإيمان الحقيقي هو الإنسان.

ومن يقرأ نصوص البابا فرنسيس يلمس أن هذا هو المحور الأساسي الذي يدور حوله كل تعليمه وكل خطواته العملية.

ليس المقصود فقط أن يكتمل الإنسان بإنسانيته، بل أن يدرك أن إنسانيته لا تكتمل إلا بالمحبة والرحمة. وهذه نقطة كثيرًا ما تغيب عن بالنا، إذ ننشغل بالدين وشعائره وننسى غايته الحقيقية: الإنسان.

أود أن أشارككم حادثة حصلت معي قبل مجيئي إلى هنا: كنت قادمًا بسيارة أجرة مع شاب مسلم يُدعى محمود.

استأذنته أن أذكر الحادثة على الهواء.

سألته: عندما يُذكر اسم البابا فرنسيس، ما الذي يخطر في بالك؟

فأجابني: “المحبة”.

وأرى أن هذه إجابة عظيمة، أن يأتي تقييم من خارج الإطار الكنسي ويصف البابا بكلمة “محبة”، فهذا يعني أن البابا نجح في إيصال رسالته كما يجب.

كما قال زميلي من قبل، إن البابا فرنسيس استحق عن جدارة لقب “بابا الفقراء”، “بابا المهمشين”، و”بابا المعذبين في المجتمع”.

من أسلوب حياته البسيط، ورفضه مظاهر الفخامة حتى في مقر إقامته حيث اختار الإقامة في بيت سانتا مارتا بدل البلاط البابوي،

إلى دعوته الدائمة للذهاب إلى الضواحي حيث يسكن المهمشون والمحرومون.

ولو تأملنا صوره، لرأينا كيف فتح باب الرحمة في سجن روما، وكان يذهب سنويًا ليغسل أقدام المساجين، ومن بينهم مسلمون ومن أتباع ديانات أخرى.

لقد كسر كل التقاليد ليؤكد أن طريق الكنيسة هو طريق الإنسان المعذب.

في وثيقة “الأخوة الإنسانية” التي وقعها في أبو ظبي، ابتدأ باسم الله الذي خلق الإنسان، باسم النفس البشرية التي قدسها الله، باسم الفقراء والمستضعفين والأيتام والأرامل.

وأكد أن العدل والرحمة هما أساس المُلك.

فالعدالة، إن لم تكن متوجة بالرحمة، قد تنقلب إلى ظلم.

لم يتوقف اهتمامه عند الإنسان، بل شمل البيئة والبيت المشترك، لا من باب التزيين، بل من باب حماية بيت البشرية، حماية الفقراء الذين لا يستطيعون الهروب من أماكن التلوث، بخلاف الأغنياء.

لقد دعا إلى وحدة جميع الأديان والطوائف حول حماية الإنسان وحماية الروح البشرية، ودعا إلى تجاوز الخلافات الثانوية المرتبطة بالمظاهر الدينية، والذهاب مباشرة إلى الجوهر.

كانت رسالته موجهة للعالم أجمع، ولكنها كانت أيضًا رسالة للكنيسة الكاثوليكية نفسها: أن تدرك أن دورها الأساسي هو الرحمة.

عندما أعلن سنة الرحمة الاستثنائية، كان يقصد بها أن تفهم الكنيسة أن عليها أن تحب الإنسان في ضعفه، كما تحب الأم طفلها في رحمها.

وعند الحديث عن علاقاته مع الأديان الأخرى، لا بد أن نذكر استقباله الحار للمهاجرين والنازحين الذين كان معظمهم من المسلمين،

ودعوته لفتح الكنائس ودور العبادة أمامهم، سعيًا لحماية أوروبا والعالم من حرب دينية جديدة.

لأنه كان مدركًا أن التطرف الديني، سواء الإسلامي أو المسيحي، يولد الحروب.

لقد حمل البابا فرنسيس رؤى نبوية في كلماته وأعماله.

لما ركع أمام زعماء الحرب السودانيين وقبّل أقدامهم متوسلًا إياهم أن يسعوا للسلام، كان يعطي العالم درسًا نبويًا حيًا.

لقد كان يؤمن أن طريق الله هو طريق السلام والحوار والمحبة.

وأن تدمير البشر بعضهم بعضًا لا يؤدي إلا إلى الخسارة المطلقة.

من الوارد جدًا أن لا يكون خليفة البابا فرنسيس أوروبيًا، بل من أصحاب البشرة السمراء،

لأن الكنيسة اليوم باتت منفتحة على جميع الاحتمالات.

غير أن هناك ثوابت لا رجوع عنها:

• أولوية الإنسان،

• أولوية الفقراء،

• ثقافة الحوار، التعاون المشترك، والتعارف المتبادل،

• حماية البيئة،

• ودور المرأة في الكنيسة.

كل هذه أصبحت من المسلمات، ولن يكون هناك تراجع عنها.

لقد كان البابا فرنسيس أول من عين امرأة على رأس دائرة من دوائر الفاتيكان، وهو تطور لم يكن متوقعًا في السابق.

كما سعى إلى تعزيز الوحدة بين الكنائس المسيحية،

ولم يتردد مؤخرًا بأن يقول: “اختاروا أنتم تاريخ عيد الفصح الذي تريدونه، والكنيسة الكاثوليكية تتبعكم”،

لأن الأهم هو أن نحتفل معًا، لا متى نحتفل.

البابا فرنسيس أيضًا اختار زيارة الأماكن المهمشة بدلًا من التوجه نحو المراكز الغنية والمرفهة.

لذلك، فإن الكرادلة اليوم سيدرسون بعناية من هو الشخص المناسب لمتابعة هذه المسيرة.

فالكنيسة تشبه طريقًا سريعًا، فيه من يسير على اليمين ومن يسير على اليسار، لكن الجميع يسيرون في نفس الاتجاه: إلى الأمام، لا إلى الوراء.